ارشيف الذاكرة .. يوم تحالفت ضدي الأحزاب وحصلتُ على صوتي فقط
يمنات
أحمد سيف حاشد
حصلت فقط على صوتي المخنوق .. صوت الفقراء والمكدودين والمسحوقين والعائشين في قاع الجحيم.. صوت الهائمين في فلوات الفقدان الكبير، والسنين المُهدرة في دروب الضياع التي تكاثرت وتزاحمت، وسدت في وجوهنا سبل النجاة، وعاث الفساد في البر والبحر، وسفك الدماء الكثيرة، وأباح للإذلال كل فُسح العيش الكريم..
صوتي اللامنتمي المذبوح على مشرحة الجماعات الدينية والأحزاب التي تنازعت بقايانا، وقادتنا إلى هذه الحرب المدمرة، والبشاعات المروعة، وهذا الاحتلال الغشوم، والنهايات الكارثية التي تعجز مفردات كل لغات الدنيا عن وصف خرابها، أو حتى الإحاطة بأطرافها..
هذه الأحزاب التي أدرك قيادتها العطب، تركتنا نصارع أقدارنا وحيدين في المواجهة مع الموت والجوع والحصار، ومن حصادها إنها أدخلتنا تحت البند السابع لميثاق الأمم، ودعت أطماع وجيوش العالم لتحريرنا من نفوسنا وأنفاسنا، وتمنت لنا مزيد من اشتداد الحصار، بل ولازالت تدعو بعد كل هذه الحرب أن يكون الحصار أثقل وأشد، حتى نثور بدلا عنها دون أن نمس تجّارها والمرابون بها والمستفيدين منها بضر ولا خسران..
الصوت المستقل المخدوع بهم.. المصلوب على جدرانهم الرمادية.. المثقل بجراحات الوطن العميقة.. صوت النأي الحزين المشبع بالوجع والأنين.. الآتي من قاع المجتمع، وتفاصيل جحيمه اليومي، ومعاناته الطويلة التي لا تنتهي.. ووجدانه المثقل بالمآسي والكآبة والكمد.. حشرجات صوتي المختنق بالألم الذابح بسكاكين الموت العلس..
صوت الشعب المخذول بالخيانات ونكران الجميل.. غصات البكاء المقموع في الحناجر.. الصوت الذي بح وفقد بقاياه في ضجيج هذه الحرب الضروس.. الصهيل الملجوم بألف لجام من حديد.. المقموع بألف هراوة، وسجون وزنازين تكاثرت حتى صارت أكثر من العد، ومقابر باتت عصية على أن تُحصى أو تُعد.. أكثر من خرائب ألف عام خلت..
في الحرب سنوات أشد.. إن أكرموك يوما يكرموك بصوت مفخخ بقنبلة تبعثرك.. تتطاير مع شظاياها بعيدا في كل اتجاه.. تمزق جسدك الندي، وتنزع روحك الشفيفة.. يتجملون مع عزرائيل كل يوم، ولا يطيقون فُراقه.. هو الجميل المولعون به حد التماهي.. يتغزلون ويدبّجون فيه القصائدَ، ويطلقون من أجله الخطابات المثيرة.. فإن أحبوك أرسلوك إليه في يومك الذي فيه أحبوك أو في اليوم الذي يليه.. يرسلونك إلى السماء، ولا ينافسوك على الجنة.. هم المشغولون في الأرض واعمارها، يتزوجون مثنى وثلاث ورباع، ويتناسلون، ويرسلون أبناء الناس إلى السماء.. وعليك الشكر والامتنان لهم..
في الحرب هم لا يريدونك أن تزأر حتّى وإن كان معك الحق كله.. يريدونك ذيلا ذليلا مستجديا تلتمس الرحمة والعطف منهم مقابل عطاء شحيح لا يخلو من استكثار يثير فيك البكاء والحزن الوخيم.. وأحيانا يبدون لك مرابين بشعين يساومونك بالقليل مقابل إزهاق روحك طالما كنت مضطر..
هم يريدونك أن تكون مؤدبا مثل سمك الزينة في إبريق محبسها.. يريدوا أن يكون صوتك في حضرتهم أخفض من مواء القطة.. يريدون أتباعا لا ميامين أو قادة.. عبيدا لا سادة.. لا يحتاجوا وطنا أو أفذاذا.. هم يحتاجوك احذية ومطايا تطيع بعشق مُسكر وولاء بالغ، وأشياء أخرى يستخدمونها عند قضاء الحاجة..
نحن صوت الفقراء والمكلومين.. ضحايا حرب رفضت أن تغرُب.. سرقوا منّا كل جميل.. سرقوا الأحلام الكبرى.. نهبوا تاريخ وحضارة.. لم يبقو لنا بر أو بحر إلا وعليه سطوا.. نهبوا جزرا ومواني ومدائن .. ثروات الأرض وتراث الأجداد… بداوة كالقاحط لم تترك شيئا إلا وقال القائل فيها: من هنا مرّوا ومن هنا مرّت كارثة الحرب..
نحن الضحايا المذبوحين باسم الله والتحرير المحتل.. حرب شعواء نحن ضحاياها من أولها إلى آخرها.. جلبوا إلينا خساسة ساستها وافك الأوغاد.. جلبوا عاهات العالم ونفايات العصر.. أعادوا انتاج البائد والمتهالك من ألف سنة.. العاجز أن يصلح عروة في وطاف حمار.. أعادوا الصراع الدامي والماضي الأسود إلى واجهة العصر.. خلافة وولاية وخراب جم من يصلحه.. دمار يثقل وطن ينوح دما على فقدان أبنائه وزهرات شبابه وعزة اهله.. من يخرجنا من هذا الماضي الحاضر المترع بالدم، وكوارثه التي تحكمنا اليوم باسم الدين واسم الايمان..
هو صوت الشعب المقموع.. الشعب المبلوع بجوعه، وبجراحاته المفتوحة، والمنفوخة بالقيح.. الشعب شتات، والأشلاء مبعثرة في الأرجاء.. من يجمعها والتفتيت يدك العظم.. والريح تطيره بعيدا.. من يلملم أشلاء وطن يذروه الريح كحبات الرمل..
اليوم كراهية باتت مثل الطوافان.. تدفن وتغرق ما طال.. والأحقاد باتت كغلال جهنم، تتطاول في الأعنان.. والحق المسلوب موزع بين رعاة الفتنة.. اهراق الدم ملاء الطرقات وبرك الدم.. ولغت أطماع الشر في يمن كانت.. وباتت أكثر من أربع.. شعب أهلكه الجوع، وتكالبت عليه شرور الدنيا.. وجواره يتورم تخمة.. يقتلنا بمال النفط..
***
في مايو 2003 جرت انتخابات رؤساء اللجان ومقرريها في مجلس النواب، بعد أن اتفقت وراء الكواليس قيادة كتل الأحزاب على محاصصة وتقاسم مقاعد هيئة الرئاسة، ومعها مقاعد رئاسة ومقرري اللجان الدائمة التسعة عشر، وأكثر من هذا تبدى لي إن كتل الأحزاب تواطأت بوجه ما على تقاسم ما كان يُفترض أن يُمنح للأعضاء المستقلين.. هكذا بدا لي المنظم الشره قادرا أن يأخذ حقه، بل وحق غيره أيضا عندما تنعدم حصة الأخلاق في السياسية، أو تفتقد السياسية للحد الأدنى من الاخلاق..
كانت المقاسمة تتم في الخفاء، ثم يأتون إلى صناديق الاقتراع بطباخات جاهزة يلتزمون بها إلى ذلك الحد من الالتزام الأكيد، حتّى وإن سادها العفن.. عليك أن تقتاتها مُرغما مهما بلغ بها العطب وأدركها سم العفن..
تكون فيها الأحزاب قد اتفقت مع بعضها لتبدو حقيقة ونتيجة الاقتراع السري مجرد تحصيل حاصل لما تم إبرامه والاتفاق عليه في الغرف المغلقة، وبالتالي تكون نتيجتها معروفة سلفا، وقد تمت في وجها ما على حساب الغير منظم والغير منتمي.. عليك أنت الخارج عن السرب أن تتجرعها كيفما كانت، ومهما كنت تعافها.. أحسست إن حالي يشبه حال الشعب الذي يغيب في الحقيقة عن التمثيل، ويتم التمثيل به، ويتعرض للمكر والخديعة من قبل الجماعات والأحزاب المنظمة.
***
لم أكن أعرف أن ولاء النواب لأحزابهم يبلغ ذلك الحد من الانقياد والتسليم!! ولكن ماذا إذا كنتُ أنا قد صرت منتميا إلى جماعة أو حزب..؟! هل ستتغير نظرتي مما رأيت؟!! هل سألتزم بأوامر الحزب، وأنقاد إليه، وأمتثل لتنفيذها مهما كانت رديئة ومسمومة؟!! هل بوسعي أن أصير تابعا له كذيل فأر، أو حتى كعربة حصان؟!! هل سأقبل بتغييب وعيي وكينونتي ووجودي إلى ذلك الحد لصالح الجماعة أو الحزب السياسي، أو حتّى الأيديولوجيا التي تستلب مني العقل، وتلغي فيني الإنسان، وتغيّب عنّي الوجدان والوجود؟!
هل سأقبل أن يكون الالتزام على حساب ماهيتي المفكّرة؟! أو على حساب حقي في التفكير والحرية وممارسة الوجود لصالح السياسة المتعرّية من أي أخلاق، والانتهازية التي لا أطيقها، بل وتستفزني حتّى أنفاسها، والوصولية التي أنفر منها ألف ميل، فيما تلك الجماعات والأحزاب تريد أن تصل إلى سدة الحكم على حساب أي شيء، وكل شيء إن لزم الأمر، حتّى وإن كان وطن يصير في خبر كان؟!
هل سأقبل بأسلوب الكذب والمخاتلة والمخادعة التي تأتي على حساب المصداقية والنزاهة السياسية؟!! هل سأسلم كينونتي وعقلي ووعيي وحريتي إلى عصبية الحزب أو الأيديولوجيا التي لطالما قادت أتباعها إلى الحروب والمهالك والمحارق والفناء، والتاريخ اليوم وفي الماضي القريب والبعيد حافل بالأمثلة والشهود؟!!
أظن بل الأكيد أنني لو كنت منتميا إلى حزب سياسي فأنني لن أتقيد بمشيئته واختياره، بل سأختار من يستريح له عقلي ويطمئن إليه ضميري.. لا أطيق انقياد يغيّب وجودي، ولا حزب يلجم عقلي، ويقيد حريتي، ويعمد إلى تنميط حياتي على نحو يستلب فيه عقلي ويلغي حريتي، ويحدد وجهة ضميري إلى ما أعافه أو لا أرتضيه..
***
المستقلون وحدهم تم استبعادهم من هذه القسمة ابتداء، رغم أن عددهم كان يبلغ أربعة عشر عضوا، وكتلتهم في ترتيبها تعتبر الثالثة بعد المؤتمر والإصلاح.. ثم استطاع المؤتمر القابض على السلطة بتلك الصورة أو تلك أن يضم إلى كتلته عشرة نواب مستقلين، ويتم هذا الإلحاق أو الالتحاق من قبل المستقلين ليس بدافع قناعة بتوجه المؤتمر أو رقيا في الوعي، ولكن بدوافع أنانية وذاتية أصحابها، وقد تملك المؤتمر منحها من حقوق ليست له، سواء كانت في صيغة مغريات مالية أو مادية أو حتى مصالح ومزايا دولة مُنحت لهم، وليس من حق مانحيها أن يمنحوها، لأنها في كل حال لا تخلو من عبث سياسي أو فساد مشهود، واستغلال للسلطة وتسخيرها لصالح حزب بدلا من وطن، أو توظيفها لخدمة فساد سياسي غير مشروع..
تراضت الأحزاب على اقتسام كعكة الرئاسة واللجان، وكنا نحن المستقلين الضحية التي جرت عليهم ما يشبه اتفاقية “سايكس بيكو”.. كنّا المستقلين أشبه بفلسطين.. أنتهى أمر التقاسم بالتراضي على حساب طرف تم اقصائه واقتسام حقه بين الأحزاب.. فطالما في الأمر حصاد، فكل ينظر إلى مكسبه، أو ما سيحققه من مكاسب، وبدلا من إدخال المستقلين في زحام التقاسم من باب اخلاقي أو سياسي دعما لمشاركة أكبر وأوسع، تم اقصاء المستقلين واقتسام ما كان يُفترض أن يكون من نصيبهم أو حقهم، مستفيدين أو مستغلين هشاشة أغلب المستقلين وعدم تنظيمهم.. المستقلين بهذا القوم أو ذاك، كثالث كتلة أو حتى كرابع كتلة، تم اقصائها من قبل جميع الأحزاب، ولم يجرِ تمثيلها بأي وجه كان..
***
عندما فكرت بالترشح لمقعد رئاسة لجنة الحريات وحقوق الإنسان أو مقعد مقررها هل كان بدافع الوهم أم سوء التقدير؟! هل هو نزوع مقامر أو مغامر أو هو اقدام ينطبق عليها مثل “إن سبرت حجنه وإن عوجه شريم”؟! هل راهنتُ على التناقضات البينية التي كانت بادية للعيان بين الأحزاب على مستوى الإعلام، وظننت إنها من المحتمل أن تصب أو تكون لصالحي؟!
ربما بعض هذا التوهم سانده خداع وتظليل أحدهم لي.. ربما ظننت أن الاقتراع سيكون سريا، وقد راهنت على أشخاص اعتقدت أن أصواتهم لن تذهب لغيري.. أو ظني أنه من المستحيل أن تذهب بعض الأصوات على الأقل لصالح من سوف ينافسوني.. ربما توهمت وجود بصيص أمل يدعوني للقدوم إليه، واحتملت أن يجذو هذا البصيص ويكبر..
ربما أيضا أردت أن أكسر ما تم الاتفاق عليه من استبعاد واقصاء، وأردت محاولة انتزاع حق تم الالتفاف والاستيلاء عليه من قبل الأحزاب، أو هو مقاومة لأمر واقع كان يجري فرضه بإمعان.. ربما هو الرفض وعدم القبول بمقولة “رفعت الاقلام وجفت الصحف” وقد صار التقاسم قيد الالتزام والتنفيذ.. ربما أردت أن أحدث على الاقل شيئا من الإرباك فيما تم الاتفاق عليه..
الحقيقة كان هناك خليط من الهواجس والظنون والدوافع تتنازع داخلي من هذا وذاك لتصب محصلتها في الإقدام على الترشح لمقعد الرئيس أو نائبه.
***
حاولت أترشح لأنافس الشيخ محمد ناجي الشائف لرئاسة اللجنة.. لم أجد من يدفعني أو يشجعني لمنافسته.. أرعبني الشيخ سلطان البركاني، وهوّل عليّ الأمر، وحذرني من فشل ذريع.. كان محقا في تقديره هذا.. فكل شيء كان معد له بعناية، ومرتب سلفا، وبتراض كتل الأحزاب في المجلس، والتزام تام من أعضائها بما تم الاتفاق عليه من محاصصة وتقاسم..
عضو اللجنة ورئيس كتلة الإصلاح عبد الرحمن بافضل شجعني على خوض غمار المنافسة ليس بالترشح لرئاسة اللجنة، ولكن للترشح لمقعد مقررها “نائب الرئيس”.. كنت أظن وبسبب تجربتي المبتدئة في المجلس، أنه سيعطيني صوته، ولكنه تفاجأت أن حتّى صوته لم يعطينِ إياه.. أشهد أنني كنت يومها ساذجا إلى حد كبير.
عَدَلتُ من المنافسة على رئاسة اللجنة إلى المنافسة على موقع مقرر اللجنة، والتي تعني المنافسة على نيابة رئيس اللجنة، وتحديدا منافسة نجل وزير الداخلية رشاد العليمي مرشح المؤتمر لهذا الموقع، والمتفق عليه بين كتل الأحزاب في المجلس..
ورغم أن عضو اللجنة ورئيس كتلة المؤتمر سلطان البركاني، كان يحذرني من المقامرة، إلا أنني غامرت وقامرت هذه المرة، ولم أتراجع للأسباب التي ذكرتها سلفا مجتمعة أو على الأقل جلّها أو بعضها، وأذكر أنني دعمت اصراري بالقول: “أريد أن أجرّب هذه المرة ديمقراطية المجلس”.. ومنه تعلمتُ الدرس، وعرفت ما كنت لا أعرفه، وإن كان ببعض كُلفة..
وأنا أخوض غمار المغامرة، كنت أظن، بل ومتأكد في قرارة نفسي أن عضوا اللجنة ناصر الخبجي، و صلاح الشنفره من كتلة الاشتراكي سوف يمنحاني أصوتهما دون أدنى مواربة.. كنت أحدث نفسي وأقول: من المستحيل أن ينتخبا ضابط أمن والأهم من هذا نجل وزير الداخلية وهم اشتراكيان ومعارضان.. من المستحيل يمنعان عنّي صوتهما، حتى وإن كان هناك اتفاق بين الأحزاب، طالما يوجد اقتراع سري، يترك لهما مجالا للتملص من أي التزام..
كان “الشنفرة” و “الخبجي” الأقرب إليّ في غربتي تلك.. لاذا بالصمت الذي كنت أظنه موافقة على عدم الخذلان.. وينطبق هذا أيضا على سلطان العتواني، وربما كل أعضاء اللجنة من المعارضة وأولهم رئيس كتلة حزب الإصلاح عبدالرحمن بافضل الذي وعدني بالدعم.. يا إلهي كم كنت بريئا في حضرة السياسية و الأقنعة و”الكولسة” والانقياد..
راقبتُ الفرز بعناية؛ فحصدت خيبتي، وتم اعلان النتيجة، وهو حصولي على صوت واحد فقط، وكان هذا الصوت هو صوتي المنكوب بخذلان الجميع.. فيما صار الشيخ محمد ناجي الشايف رئيسا للجنة، وفاز محمد رشاد العليمي نجل وزير الداخلية مقررا للجنة..
تصورو أن أصوات تلك الأحزاب بما فيها الاشتراكي والناصري، وقبلها الإصلاح، وقبل الجميع المؤتمر، ينتخبون شيخا قبليا، رئيسا للجنة الحريات وحقوق الإنسان، ونائبا له هو ضابط أمن، ونجل وزير الداخلية والمعنية تلك اللجنة بالرقابة ورصد الانتهاكات في وزارة الداخلية وكبار المشايخ الذين لديهم سجون خاصة..
***
الاشتراكي والوحدوي الناصري، لو كانا يفكرا بقليل من الإدراك لنازلوا منازلة من أجل أن تكون هذه اللجنة من نصيبهم، باعتبارهم معارضة، وكون اختصاصات هذه اللجنة واسعة ويمكن أن تلعب دورا أكبر من البرلمان كله لو كانوا يعلموا، أو على الأقل كانوا يسلمونها لمن هم جديرين بها، من باب مصلحة حماية الشعب التي تُنتهك حقوقه كل يوم، لا فقط أعضاء أحزابها الذين يتعرضون هم أيضا للقمع والانتهاكات، وربما كانت قد حالت دون تضييق الحريات، ووضعت حد على الأقل لعدم تنامي الانتهاكات في المستقبل، بهذا الحد أو ذاك.
الغريب أن رؤساء الكتل البرلمانية الثلاث المؤتمر والإصلاح والناصري كانوا أعضاء في هذه اللجنة، والغرابة الأكثر من خلال نشاطي الحقوقي في اللجنة وخارجها وجدت نفسي أنا الحقوقي والمعارض، فيما اللجنة بجل أعضاءها لا كلهم، ومن ضمنهم رؤساء الكتل فيها، كانت تميل إن لم تمثل السلطة بوجه ما، وسأستعرض بعض المؤيدات لما أقوله في مواضع شتى لاحقا.
والأهم أنني اكتشفت لاحقا أن هذه اللجنة تعاني من خلل تكويني عميق في لا في وعيها فقط ولكن في بنيتها، وبدلا من أن تناهض هذه اللجنة القمع والانتهاكات والتضييق على الحريات كانت أحيانا عقبة كأداء أمام مناهضة تلك الانتهاكات، وتتساهل أحيانا أو تتستر أو تصمت حيال بعض الانتهاكات إن لم يكن جلّها..
لقد اكتشفت لاحقا هذا الخلل التكويني البالغ في هذه اللجنة، ووجدت أن أغلب أعضاءها أما مشايخ أو ضباط أمن أو مُنتهكي حقوق، بل أن بعضهم لديه سجون خاصة.. ولهذا كان يمر العام دون أن تجتمع هذه اللجنة، أو تعقد اجتماعا واحدا لها خلال العام، ولاسيما بعد أعوامها الأولى، تجنبا منها، في أن تجد نفسها في حرج شديد، أو تكون محمولة تحت ضغط الرأي العام على مواجهة الانتهاكات، ولاسيما السافرة منها.
***
في حوار أجرته ساره ميرش ونشرها موقع ” قنطرة” في العام 2009 أشرت إلى واقع الحال، وإلى بعض مما ورد، أقتبس منه التالي:
- أجد في الاستقلال حرية أكبر وأوسع مما لو كنت منتميا لحزب، غير أنني أجد دعما وتضامنا أقل من الأحزاب في مواقفي بسبب عدم انتمائي لأي منها، بل أجد الأحزاب أحيانا تتحالف ضدي. فمثلا عند انتخابات رؤساء ومقرري لجان البرلمان في عام 2003 رشحت نفسي لمنصب مقرر لجنة الحريات وحقوق الإنسان، ولم يكن يوجد مستقل غيري في عضوية اللجنة، فتحالفت ضدي كل الأحزاب في اللجنة لأحصل على صوتي فقط، فيما فاز لمنصب المقرر منافسي ابن وزير الداخلية العضو في البرلمان.
- أما تمويل حملتي الانتخابية الماضية فلازلت إلى الآن أقضي دينها. لقد نجح أربعة عشر نائبا مستقلا لعضوية المجلس، انضم عشرة للحزب الحاكم بمقابل دعم مالي ومعنوي من قبل السلطة وحزبها الحاكم، ولم يبق مستقلون غير أربعة أعضاء فقط رفضوا الانضمام، وكنت أنا أحدهم.. وقد دفعت كثير من الثمن بسبب هذا الرفض، وبسبب فضح كثير من انتهاكات الحقوق والحريات التي تقوم بها السلطة وأجهزتها الأمنية ضد خصومها السياسيين وأصحاب الرأي والمواطنين.
- قوانيننا لا زالت مثقلة وحافلة بالنصوص التمييزية والعنصرية بسبب الجنس والمعتقد. ثم نجد آليات حماية حقوق الإنسان الرسمية مثل وزارة حقوق الإنسان في الحكومة ولجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب ولجنة حقوق الإنسان في مجلس الشورى لا زالت معطلة وفارغة من المضمون الحقوقي، وتعاني من خلل بنيوي. فعلى سبيل المثال أغلب أعضاء لجنة الحريات وحقوق الإنسان في البرلمان مشايخ وضباط أمن ومنتهكي حقوق وحريات.
- ولذلك نجد تلك الآليات تتماهى مع السلطة وتنحاز إلى القمع في كثير من الأحيان. أما آليات حقوق الإنسان الوطنية الأخرى فإنها تعاني من القمع والتضييق عليها من قبل السلطة، فضلا عن حجب المعلومة عنها وإعاقة الوصول إليها. السجون الخاصة مثل سجون المشايخ والسجون التي تعمل خارج نطاق قانون السجون أكثر من أن تحصى. آلاف المشتبه فيهم والأبرياء يقضون السنوات داخل سجون الأمن والمخابرات دون محاكمة أو إحالة للقضاء. والقضاء ضعيف جدا ولا يستطيع أن يفرض سلطته وسيادته على الأجهزة الأمنية. كل هذا غيظ من فيض وقليل من كثير..
***
وختاما أقول هنا أن كل هذا وتراكماته وتداعياته، إلى جانب غيره من العوامل، ومنها ترحيل القضايا دون حل، والغرور والغطرسة، والاعتقاد والمراهنة على الدعم الخارجي ضد الخصوم المحليين، هو من أوصل البلد إلى ما وصلت إليه اليوم من حرب ودمار وخراب وخيبة عريضة ومأساة كبيرة ابتلعت الجميع..
***
يتبع
الصورة عندما كان صوتي يتصدى الرصاص أمام مجلس الوزراء
قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.